ما مدى عناية مفكري الإسلام بالجانب الأخلاقي؟
والجواب:
1) أن الأخلاق كانت موضع اهتمام واضح من المسلمين على اختلاف علومهم وتخصصاتـهم، ويدل على ذلك -كما يقول الأستاذ الدكتور عبد الحميد مدكور أستاذ ورئيس قسم الفلسفة الإسلامية بدار العلوم سابقًا- أننا نجد الاهتمام بـها في فروع مختلفة من الثقافة العربية الإسلامية، وتجلَّى ذلك في كتب الأدب، وفي شعر الشعراء، وأمثال الأدباء، كما تجلَّى لدى المؤرخين ورواة الأخبار الذين كانوا يتحدثون عن الأخلاق كلما دعت الحاجة، وقد ظهر ذلك أيضًا في كتب بعض الصوفية الذين اهتموا بـهذا الجانب اهتمامًا واضحًا، مثل الحارث المحاسبي والحكيم الترمذي.
2) وكان للفقهاء أيضًا اهتمامهم بالأخلاق حيث إن صناعة الفقه كما يقول ابن رشد تقتضي بالذات الفضيلة العملية، وقد استطاع أحد أئمة الفقه وهو الإمام مالك أن يحل عددًا من المشكلات الأخلاقية باستخدامه لأحد المصادر الشرعية المستخدمة لدى بعض الفقهاء في أصول الفقه، وهو أصل (المصلحة المرسلة).
3) كما كان من القواعد الفقهية الشرعية التي جرى الاعتداد بـها عند الفقهاء (لا ضرر ولا ضرار) وهي قاعدة مشهورة في الشريعة قصد بـها مراعاة الجانب الأخلاقي في التعامل مع الآخرين، حتى لا يؤدي إلى الإضرار بـهم، وينطبق ذلك على قواعد أخرى، كقاعدة (الأمور بـمقاصدها)، وهي تُعْنَى بالحديث عن النية التي هي جوهر الفعل الأخلاقي، وقاعدة (الضرر لا يزال بالضرر). وكان مما تناولوه أيضًا: مبحث الإكراه، وهو ذو صلة وثيقة بالإرادة، التي هي إحدى عناصر الفعل الخلقي.
4) ومن مظاهر اهتمام علماء الشريعة بالأخلاق اتفاق الجمهور على تحريم الحيل التي يتبعها بعض الناس للتهرب من أداء بعض الفرائض الشرعية، وذلك لما يترتب على العمل بـها من فساد وإفساد.
5) ومن البديهي أيضًا أن يهتم علماء الحديث الشريف، حيث إن الحديث الشريف هو تسجيل لأقوال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأفعاله، وتقريراته وصفاته، وهو صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى، والأسوة الحسنة بطبيعة كونه المبلغ لهدى الله {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}[الأحزاب:21]. ولهذا سنجد في أغلب جوامع الحديث الشريف أبوابًا كثيرة تتحدث عن الجانب الأخلاقي في السنة النبوية فسنجد مثلا عنوان ككتاب البر، وكتاب الآداب، والرقاق، كما ألف كثير منهم مؤلفات مستقلة تتناول الجانب الأخلاقي من السُّنة كالأدب المفرد للبخاري، وكتب الزهد المختلفة، كما سنجد بعضهم اعتنى بذلك عناية كبيرة كابن أبى الدنيا في رسائله، والخرائطي، وأبى عبد الرحمن السلمي، وأبى بكر الآجري وغيرهم من حفاظ الحديث الذين اهتموا ببيان الجانب الأخلاقي في السنة الشريفة. كما ظهر الاهتمام بالأخلاق كذلك في الكتب الموسوعية التي تشتمل على موضوعات مختلفة في الأدب والسياسة والتاريخ، مثل كتاب (عيون الأخبار) لابن قتيبة، والذي أفرد في كتابه قِسمًا سماه (كتاب الطبائع والأخلاق المذمومة).
6) ويتفق مع هذا الاتجاه العام بالعناية بالأخلاق ما أبداه العلماء المسلمون من اهتمام بالحديث عن الأخلاق التي ينبغي أن يتحلى بـها العلماء وأصحاب المكانة في المجتمع، على اختلاف تخصصاتـهم، ومواقعهم، ومن ذلك ما كتبه أبو بكر الآجري عن أخلاق العلماء، والماوردي عن نصيحة الملوك، وما كتبه آخرون عن أدب القاضي، والخطيب البغدادي عن الفقيه والمتفقه وأخلاق الراوي وآداب السامع، والنووي عن آداب حملة القرآن، وأدب المفتي والمستفتي، وابن قتيبة عن أدب الكاتب، وما كتبه القلقشندي عن ذلك في صبح الأعشى، وقد خصص أبو بكر الرازي الفيلسوف كتابه (الطب الروحاني) وبعض رسائله للكلام عن الأخلاق.
7) ويمكن القول بأن الحديث عن أخلاق العلماء قد كان بـمثابة تقليد متبع عند العلماء المسلمين يخصصون له كُتبًا مستقلة أو فصولا في كتبهم قبل الحديث عن مسائل العلم وقضاياه، ولقد كان هذا الاهتمام بالأخلاق من الأمور التي وجدت طريقها إلى ميادين أخرى من ميادين الثقافة الإسلامية التي كانت تكتمل بالتدريج منذ بدأت حركة التدوين، ثم أعقبتها حركة التأليف والترجمة من اللغات الأخرى إلى اللغة العربية، ولم يجد المسلمون بأسًا في أن ينقلوا إلى لغتهم ما لم يجدوا فيه مخالفة للمأثور لديهم من الأخلاق الدينية.
وبالإضافة إلى هذا سنجد اتجاهات أخلاقية واضحة عند المتكلمين سواء من أهل السنة كالأشعرية أو غيرهم كالمعتزلة، كما سنجد اهتماما أخلاقيًّا واضحًا عند الصوفية المسلمين، وعند فلاسفة الإسلام، فرغم أن هؤلاء الأخيرين (فلاسفة الإسلام) يعتبروا امتدادًا للتراث اليوناني الفلسفي والأخلاقي، إلا أن نتاجهم لم يخل من إضافات وزيادات أضافوها إلى الفكر الأخلاقي اليوناني الذي وصل إليهم، فالفارابي مثلا في معالجته للأخلاق يوافق أفلاطون تارة وأرسطو أخرى، ويتجاوزهما ثالثة في نزعة تصوف وزهد واضحة في فكره الأخلاقي.
9) أما الصوفية المسلمون فسنجد عندهم نظريات أخلاقية واضحة، ويمثل ما قدموه في هذا المجال أهم ما قدمه المسلمون، ومن الممكن أن نلمح الاتجاه الأخلاقي واضحًا عند من عرَّف التصوف منهم بأنه ((خلق، فمن زاد عليك في الخلق زاد عليك في الصفاء)). ومن الممكن القول بأن اهتمام الصوفية بالأخلاق كان شاملا لكل جانب من جوانب التصوف، بارزًا في كل خطوة من خطواته. ولذلك كان من الواجب بذل الجهد للتخلق بـما يـمكن للبشر أن يتعلقوا به من الأخلاق الإلهية، التي تتمثل في أسماء الله تعالى الحسنى، والتي ينبغي أن يتخلقوا بـها أو يتعلقوا بـها بحسب كل اسم منها، ومن هنا جعلوا الاقتداء بأخلاق النبي صلى الله عليه وسلم غايتهم، لأنه صلى الله عليه وسلم أسـمى نـموذج للكمال البشري.
10) كما يتضح اهتمام الصوفية بالأخلاق في حديثهم عن مجاهدة النفس التي هي عصب الحياة الصوفية، وأساس بنائها، وتقتضي هذه المجاهدة مقاومة أهواء النفس ومواجهة شهواتـها، حتى لا تكون حجابًا بين العبد وربه، ولا شك أن هذه الـمجاهدة تتضمن غايات أخلاقية واضحة، لأنـها تبتغي تخليص النفس من آفات الأخلاق ثم إحلال الأخلاق الحسنة محل هذه الأخلاق السيئة التي تخلصت منها، ويعبر الصوفية عن هذين الأمرين بالتخلي والتحلي، ويقصدون بالتخلي: ترك الأخلاق المذمومة، وبالتحلي: التخلق بالأخلاق الحميدة.
11) كما يتضح الاتجاه الأخلاقي الواضح عند الصوفية في حديثهم عن المقامات وهي جماع التربية الخلقية الصوفية، وقد لاحظ الصوفية ما لها من دور هام في تـهذيب أخلاق الإنسان، بحيث يتخلص في كل مقام يتحقق به من العديد من الآفات، فمن تحقق بالزهد تخلص من حب الدنيا والرغبة فيها، ومن تحقق بالتوكل تخلص من القلق وقلة الاعتماد على الله، ومن تحقق بالخوف من الله تخلص من الكسل والتهاون في الطاعات ومن الوقوع في المعاصي المختلفة، وهكذا تكون المقامات وسيلة لاتصاف المرء بكثير من الفضائل الخُلقية التي تقتبس من أخلاق الشريعة.
12) وإذا كان ما قدمناه حتى الآن ينصبُّ على النفس في علاقتها مع الله فإن للصوفية عنايةً أيضًا بالأخلاق التي ينبغي أن يتحققوا بـها في علاقتهم بالآخرين في المجتمع، وقد أحاط الصوفية حياتـهم في المجتمع بسياج من الأخلاق الرفيعة فالصوفي الحق يعيش في الحياة بقلب لا يعرف الحقد ولا الشحناء، فهو سليم الصدر لجميع المسلمين، ولذلك لا ينالهم شر من جهته، فهو لا ينازعهم في شأن من شئونـهم، التي ينشغلون بـها، وإذا كان الصوفي الحق لا يسيء إلى أحد فإنه لا يكتفي بذلك بل إنه يتحمل أذى الآخرين، ويعفو مع القدرة على الثأر والانتقام، ويستعلي عن نوازع نفسه، ولذلك كان طبيعيًّا أن يكون الصوفي كواحة أمن وموطن سكينة في وسط المجتمع، وقد قدم الصوفية نماذج من الإيثار تكشف عن ودٍّ صادق ومحبة خالصة، كما تكشف عن روح مرهفة وضمائر حية يقظة. وهكذا تـمتزج الحياة الصوفية الحقة بالأخلاق في جميع مراحلها، وفي سائر جوانبها؟
13) وتـمتاز الأخلاق الإسلامية التي قدمها لنا الصوفية المسلمون بأنـها ليست فضائل نظرية تأملية كتلك التي قدمها الفلاسفة، بل هي أخلاق عملية يـمكن تطبيقها على أرض الواقع، ولهذا يتضح من حديث الصوفية عن الأخلاق أنـهم يؤمنون بإمكان تغيير الأخلاق واكتسابـها، ولولا ذلك لما كان للمجاهدة فائدة.
14) وقد اهتم الصوفية المسلمون بالنية اهتمامًا بالغًا، فالنية هي جوهر العمل الخلقي وروحه، واهتمامهم بالنية يبدأ من أول العمل حيث يطالبون الإنسان بتمحيص نيته دائمًا، ويرجع اهتمامهم بالنية إلى أن هناك أعمالا متقاربة لا يفرق بينها إلا النية، كما أن النية تحول العمل إلى طاعة، ويَسْلَم بـها العمل من آفات النفس المتجددة، ومن هنا أتى حرصهم الدائم على استحضار النية دائمًا، وكان لهذا الاهتمام بالنية أثره في اهتمامهم بالتحليل النفسي الذي لا يقلون فيه عُمقًا وثراءً عن كثير مما قدمته البحوث الحديثة المتعلقة بالتحليل النفسي، وإن اختلفت الوسائل، وافترقت الغايات.
والجواب:
1) أن الأخلاق كانت موضع اهتمام واضح من المسلمين على اختلاف علومهم وتخصصاتـهم، ويدل على ذلك -كما يقول الأستاذ الدكتور عبد الحميد مدكور أستاذ ورئيس قسم الفلسفة الإسلامية بدار العلوم سابقًا- أننا نجد الاهتمام بـها في فروع مختلفة من الثقافة العربية الإسلامية، وتجلَّى ذلك في كتب الأدب، وفي شعر الشعراء، وأمثال الأدباء، كما تجلَّى لدى المؤرخين ورواة الأخبار الذين كانوا يتحدثون عن الأخلاق كلما دعت الحاجة، وقد ظهر ذلك أيضًا في كتب بعض الصوفية الذين اهتموا بـهذا الجانب اهتمامًا واضحًا، مثل الحارث المحاسبي والحكيم الترمذي.
2) وكان للفقهاء أيضًا اهتمامهم بالأخلاق حيث إن صناعة الفقه كما يقول ابن رشد تقتضي بالذات الفضيلة العملية، وقد استطاع أحد أئمة الفقه وهو الإمام مالك أن يحل عددًا من المشكلات الأخلاقية باستخدامه لأحد المصادر الشرعية المستخدمة لدى بعض الفقهاء في أصول الفقه، وهو أصل (المصلحة المرسلة).
3) كما كان من القواعد الفقهية الشرعية التي جرى الاعتداد بـها عند الفقهاء (لا ضرر ولا ضرار) وهي قاعدة مشهورة في الشريعة قصد بـها مراعاة الجانب الأخلاقي في التعامل مع الآخرين، حتى لا يؤدي إلى الإضرار بـهم، وينطبق ذلك على قواعد أخرى، كقاعدة (الأمور بـمقاصدها)، وهي تُعْنَى بالحديث عن النية التي هي جوهر الفعل الأخلاقي، وقاعدة (الضرر لا يزال بالضرر). وكان مما تناولوه أيضًا: مبحث الإكراه، وهو ذو صلة وثيقة بالإرادة، التي هي إحدى عناصر الفعل الخلقي.
4) ومن مظاهر اهتمام علماء الشريعة بالأخلاق اتفاق الجمهور على تحريم الحيل التي يتبعها بعض الناس للتهرب من أداء بعض الفرائض الشرعية، وذلك لما يترتب على العمل بـها من فساد وإفساد.
5) ومن البديهي أيضًا أن يهتم علماء الحديث الشريف، حيث إن الحديث الشريف هو تسجيل لأقوال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأفعاله، وتقريراته وصفاته، وهو صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى، والأسوة الحسنة بطبيعة كونه المبلغ لهدى الله {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}[الأحزاب:21]. ولهذا سنجد في أغلب جوامع الحديث الشريف أبوابًا كثيرة تتحدث عن الجانب الأخلاقي في السنة النبوية فسنجد مثلا عنوان ككتاب البر، وكتاب الآداب، والرقاق، كما ألف كثير منهم مؤلفات مستقلة تتناول الجانب الأخلاقي من السُّنة كالأدب المفرد للبخاري، وكتب الزهد المختلفة، كما سنجد بعضهم اعتنى بذلك عناية كبيرة كابن أبى الدنيا في رسائله، والخرائطي، وأبى عبد الرحمن السلمي، وأبى بكر الآجري وغيرهم من حفاظ الحديث الذين اهتموا ببيان الجانب الأخلاقي في السنة الشريفة. كما ظهر الاهتمام بالأخلاق كذلك في الكتب الموسوعية التي تشتمل على موضوعات مختلفة في الأدب والسياسة والتاريخ، مثل كتاب (عيون الأخبار) لابن قتيبة، والذي أفرد في كتابه قِسمًا سماه (كتاب الطبائع والأخلاق المذمومة).
6) ويتفق مع هذا الاتجاه العام بالعناية بالأخلاق ما أبداه العلماء المسلمون من اهتمام بالحديث عن الأخلاق التي ينبغي أن يتحلى بـها العلماء وأصحاب المكانة في المجتمع، على اختلاف تخصصاتـهم، ومواقعهم، ومن ذلك ما كتبه أبو بكر الآجري عن أخلاق العلماء، والماوردي عن نصيحة الملوك، وما كتبه آخرون عن أدب القاضي، والخطيب البغدادي عن الفقيه والمتفقه وأخلاق الراوي وآداب السامع، والنووي عن آداب حملة القرآن، وأدب المفتي والمستفتي، وابن قتيبة عن أدب الكاتب، وما كتبه القلقشندي عن ذلك في صبح الأعشى، وقد خصص أبو بكر الرازي الفيلسوف كتابه (الطب الروحاني) وبعض رسائله للكلام عن الأخلاق.
7) ويمكن القول بأن الحديث عن أخلاق العلماء قد كان بـمثابة تقليد متبع عند العلماء المسلمين يخصصون له كُتبًا مستقلة أو فصولا في كتبهم قبل الحديث عن مسائل العلم وقضاياه، ولقد كان هذا الاهتمام بالأخلاق من الأمور التي وجدت طريقها إلى ميادين أخرى من ميادين الثقافة الإسلامية التي كانت تكتمل بالتدريج منذ بدأت حركة التدوين، ثم أعقبتها حركة التأليف والترجمة من اللغات الأخرى إلى اللغة العربية، ولم يجد المسلمون بأسًا في أن ينقلوا إلى لغتهم ما لم يجدوا فيه مخالفة للمأثور لديهم من الأخلاق الدينية.
وبالإضافة إلى هذا سنجد اتجاهات أخلاقية واضحة عند المتكلمين سواء من أهل السنة كالأشعرية أو غيرهم كالمعتزلة، كما سنجد اهتماما أخلاقيًّا واضحًا عند الصوفية المسلمين، وعند فلاسفة الإسلام، فرغم أن هؤلاء الأخيرين (فلاسفة الإسلام) يعتبروا امتدادًا للتراث اليوناني الفلسفي والأخلاقي، إلا أن نتاجهم لم يخل من إضافات وزيادات أضافوها إلى الفكر الأخلاقي اليوناني الذي وصل إليهم، فالفارابي مثلا في معالجته للأخلاق يوافق أفلاطون تارة وأرسطو أخرى، ويتجاوزهما ثالثة في نزعة تصوف وزهد واضحة في فكره الأخلاقي.
9) أما الصوفية المسلمون فسنجد عندهم نظريات أخلاقية واضحة، ويمثل ما قدموه في هذا المجال أهم ما قدمه المسلمون، ومن الممكن أن نلمح الاتجاه الأخلاقي واضحًا عند من عرَّف التصوف منهم بأنه ((خلق، فمن زاد عليك في الخلق زاد عليك في الصفاء)). ومن الممكن القول بأن اهتمام الصوفية بالأخلاق كان شاملا لكل جانب من جوانب التصوف، بارزًا في كل خطوة من خطواته. ولذلك كان من الواجب بذل الجهد للتخلق بـما يـمكن للبشر أن يتعلقوا به من الأخلاق الإلهية، التي تتمثل في أسماء الله تعالى الحسنى، والتي ينبغي أن يتخلقوا بـها أو يتعلقوا بـها بحسب كل اسم منها، ومن هنا جعلوا الاقتداء بأخلاق النبي صلى الله عليه وسلم غايتهم، لأنه صلى الله عليه وسلم أسـمى نـموذج للكمال البشري.
10) كما يتضح اهتمام الصوفية بالأخلاق في حديثهم عن مجاهدة النفس التي هي عصب الحياة الصوفية، وأساس بنائها، وتقتضي هذه المجاهدة مقاومة أهواء النفس ومواجهة شهواتـها، حتى لا تكون حجابًا بين العبد وربه، ولا شك أن هذه الـمجاهدة تتضمن غايات أخلاقية واضحة، لأنـها تبتغي تخليص النفس من آفات الأخلاق ثم إحلال الأخلاق الحسنة محل هذه الأخلاق السيئة التي تخلصت منها، ويعبر الصوفية عن هذين الأمرين بالتخلي والتحلي، ويقصدون بالتخلي: ترك الأخلاق المذمومة، وبالتحلي: التخلق بالأخلاق الحميدة.
11) كما يتضح الاتجاه الأخلاقي الواضح عند الصوفية في حديثهم عن المقامات وهي جماع التربية الخلقية الصوفية، وقد لاحظ الصوفية ما لها من دور هام في تـهذيب أخلاق الإنسان، بحيث يتخلص في كل مقام يتحقق به من العديد من الآفات، فمن تحقق بالزهد تخلص من حب الدنيا والرغبة فيها، ومن تحقق بالتوكل تخلص من القلق وقلة الاعتماد على الله، ومن تحقق بالخوف من الله تخلص من الكسل والتهاون في الطاعات ومن الوقوع في المعاصي المختلفة، وهكذا تكون المقامات وسيلة لاتصاف المرء بكثير من الفضائل الخُلقية التي تقتبس من أخلاق الشريعة.
12) وإذا كان ما قدمناه حتى الآن ينصبُّ على النفس في علاقتها مع الله فإن للصوفية عنايةً أيضًا بالأخلاق التي ينبغي أن يتحققوا بـها في علاقتهم بالآخرين في المجتمع، وقد أحاط الصوفية حياتـهم في المجتمع بسياج من الأخلاق الرفيعة فالصوفي الحق يعيش في الحياة بقلب لا يعرف الحقد ولا الشحناء، فهو سليم الصدر لجميع المسلمين، ولذلك لا ينالهم شر من جهته، فهو لا ينازعهم في شأن من شئونـهم، التي ينشغلون بـها، وإذا كان الصوفي الحق لا يسيء إلى أحد فإنه لا يكتفي بذلك بل إنه يتحمل أذى الآخرين، ويعفو مع القدرة على الثأر والانتقام، ويستعلي عن نوازع نفسه، ولذلك كان طبيعيًّا أن يكون الصوفي كواحة أمن وموطن سكينة في وسط المجتمع، وقد قدم الصوفية نماذج من الإيثار تكشف عن ودٍّ صادق ومحبة خالصة، كما تكشف عن روح مرهفة وضمائر حية يقظة. وهكذا تـمتزج الحياة الصوفية الحقة بالأخلاق في جميع مراحلها، وفي سائر جوانبها؟
13) وتـمتاز الأخلاق الإسلامية التي قدمها لنا الصوفية المسلمون بأنـها ليست فضائل نظرية تأملية كتلك التي قدمها الفلاسفة، بل هي أخلاق عملية يـمكن تطبيقها على أرض الواقع، ولهذا يتضح من حديث الصوفية عن الأخلاق أنـهم يؤمنون بإمكان تغيير الأخلاق واكتسابـها، ولولا ذلك لما كان للمجاهدة فائدة.
14) وقد اهتم الصوفية المسلمون بالنية اهتمامًا بالغًا، فالنية هي جوهر العمل الخلقي وروحه، واهتمامهم بالنية يبدأ من أول العمل حيث يطالبون الإنسان بتمحيص نيته دائمًا، ويرجع اهتمامهم بالنية إلى أن هناك أعمالا متقاربة لا يفرق بينها إلا النية، كما أن النية تحول العمل إلى طاعة، ويَسْلَم بـها العمل من آفات النفس المتجددة، ومن هنا أتى حرصهم الدائم على استحضار النية دائمًا، وكان لهذا الاهتمام بالنية أثره في اهتمامهم بالتحليل النفسي الذي لا يقلون فيه عُمقًا وثراءً عن كثير مما قدمته البحوث الحديثة المتعلقة بالتحليل النفسي، وإن اختلفت الوسائل، وافترقت الغايات.